زهراء كانت تمشي في ردهات المدرسة الثانوية وكأنها تحمل عالماً صغيراً في صدرها. صمتها يلفّها كالوشاح، وعيناها العسليتان تختبئان خلف حواجبٍ لا تجرؤ على الكشف عن كلّ ما في داخلهما. أحمد، الذي عرفته منذ الإعدادية، ظلّ في طرف الخاطر — ليس كباقي الوجوه، بل كندبة طرأت على قلبها، تذكّرها بآلام قديمة وبأحلام لم تكتمل.
وذات يوم، بينما كانت الصفوف تتلاشى خلف جدران المدرسة، أمسك أحمد بيدها فجأة؛ لم تكن يده قوة، بل كانت رجاءً. قال بصوتٍ مكسور: «زهراء… أريد منك شيء بسيط.»
هزّت جسدها رعدة خفيفة. «ماذا؟» جاء صوتها مهزوزاً، كمن ينادونها من بعيد.
تنفّس أحمد، كأن الكلمات تُكلّفه ثمناً باهظاً. «لا نستطيع إكمال العلاقة…» صرخ الحزن في نبرته، وكأنما يكتم انفجاراً.
حاولت أن تطمأنّ نفسها ثم قالت: «أعرف… لكن لنحاول مع العائلة.»
ارتفع صوته قليلاً، مشوب بالألم: «أنتِ لم تحاولي ولو مرة. لو خفتِ لمرّة واحدة، كنتُ سأعتبر مشاعرنا لعبة.»
أجهشت زهراء بصمت، وقالت بصوتٍ مكتوم: «والدي معقّد نفسياً، وأمي تكره والدتك. لو تكلّمتُ… سيقولون إنك جئتِ لتدمر الأسرة. سيطردونني. سيرمون بي إلى الجحيم.»
أحمد حاول بقوّة: «حاولي مرة. ربما تنحلّ الأمور.»
«حاولت كثيراً»، قالت زهراء، وكل كلمةٍ منها تعدّمت في حلقها. «لكنهم لم يوافقوا أبداً.»
سألها: «منذ متى؟»
أجابت: «منذ أسبوع… منذ أن رحل.»
ارتعش وجه أحمد. «سأخطبك بدون علمهم. تصرّفي بذكاء.»
صرخت الصدمة في صدرها: «عمرك 19، لا تملك المال حتى للدفع أو الزواج!»
«إما أن أخطبك أو أنهي كل شيء.» قالها بحدّةٍ تقرب من الاستسلام.
فعلت زهراء ما تملك من شجاعةٍ هزيلة: «حسناً… حسناً.»
في اليوم التالي، ذهب أحمد ليتحدث إلى والده. الرفض كان قاسياً، كالصفعة. تهديداتٌ ووعيدٌ، وكلماتٌ عن أعمالٍ مظلمةٍ في الماضي. قال الأب: «سأقطع لسانك.» لكن أحمد لم يساوم: «لن أسمح لمستقبلي أن يكون تجارة مخدرات.»
البيت الآخر كان ساحة حربٍ أيضاً. أم زهراء قبضت على قطعة قماش من فستانها، صرخت فيها: «أترجين والدتك يا مجنونة!» لكن زهراء تمالكت نفسها: «آسفة، أم… أمي.»
«إن رأيتك معه سيكون هذا آخر يوم في حياتك!» همست الأم بتهديدٍ بلا تردد.
ثم تكشّف الأمر: أحد أفراد عصابة أبي أحمد لاحظ مراسلات بينهما. وفي ليلةٍ مظلمة، بينما كانت زهراء متجهةً للمكان المعتاد، هبّت ريح من العنف؛ أمسكوا بها، وجرّوها بعنف، وسحبوا أحمد بعيداً. صرخت زهراء بعيونٍ ملؤها الرعب: لم ترَه بعد ذلك. لم تكن تعلم إن كان حيّاً أو لا.
مرت ستة أعوام. الزمن قاسٍ يقطع على البشر مثل شفرات. زهراء، الفتاة الهادئة التي لم تعرف أن تكبر داخل محيطها، خرجت من رمادها: دخلت التدريب العسكري، قاسيةٌ ضد ضعفها، أقسى من تلك الشهور التي هزمت فيها نفسها. لم تكن قوية جسدياً في البداية، لكن مهارتها في إطلاق النار نمت كجرحٍ يلتئم ليصبح سلاحاً. قصّت شعرها، صار قصيراً كحقيقةٍ لا تقبل التجنّب. تحوّلت ملامحها لتشبه صبيّاً في سلوكٍ ومظهرٍ — ستارٌ يخفف ضغط العيون والهمسات.
أحمد أيضاً تغيّر. بعد ست سنوات من التعب والقتال والنقاش مع الشياطين التي تحيط بعائلته، أصبح قائداً. لم يمنعه منصبه ولا بشرته من أن يحتفظ بصدى اسمٍ واحدٍ يقطع جسده: زهراء. ذكراها كانت شبحاً يلوذ به عندما يواجه المآسي. كان كلما اشتدّ عليه الحزن، تذكر كيف صرخ فيها ذات يوم لأنه شعر بأن ضعفه سيهدمها.
الصدفة — أو ربما القدر — جمعتهما مرة أخرى في مدينةٍ يشتعل فيها لهيب الحرب. زهراء، التي اتقنت التنكّر بزيٍّ يخفي أنوثتها، سارت بين الجنود، لا تريد أن يعرف أحد حقيقتها. لكنها لم تستطع الهروب من عيونٍ رماديةٍ اعتادت قراءة حركاتها. رأت أحمد من بعيد؛ كان يرتدي قناعاً يخفي نصف وجهه. عرفها فوراً من شدة حركتها، من طريقتها في رفع اليد كمن يلوّح بمسدس وهمي. لاحقها حتى جاءا إلى مستودع مهجور. هناك، خلع قناعه، ورأته على حقيقته — هو قبل كل شيء: وجه يعرف كيف يحنّ.
«اشتقت لكِ يا زهرتي… لماذا تهربين؟» نطق بها كما لو أن الليل قد صار له.
لم تستطع زهراء أن تنكر: ارتعشت. «كيف عرفت؟» همست، متعجبة، وكأن وجوده كشف عنها.
«أعرفك من طريقة صمتك»، قال وهو يبتسم بسخريةٍ حانية. سحبها إلى صدره، واحتضنها كأن العالم برمّته لا يملك حقّاً أن يفرق بينهما.
العيش في الكتيبة لم يكن سهلاً عليها. كانت تواجه نظراتٍ واستهزاءاتٍ، لكنها تعرف أن قوتها الحقيقية كانت في خبّتها، في صمتها، في القدرة على أن تصبح ما لم تتصوره. أحمد كان دائماً يدافع عنها، ويخرج على من يجرؤ على السخرية. مرة، في ساحة التدريب، نادى عليها بصوتٍ حازمٍ أمام الجميع: «نادر، دورك!» كانت عيناه كأنّهما قارئتان للقلوب — يضرب لمن يجرؤ على ألمها.
ثم اندلع القتال فجأةً. أصوات الرصاص، صهيل الخيول، انفجارات تشقّ الفضاء. زهراء كانت تقاتلَ كعاصفة: قتلت رجلاً أطلق النار، ضربت آخر بحجر، أنقذت رفاقها ببرودٍ وحزم. رفيقتها سارة لم تكن تعرف أنها فتاة. حين انقلبت الأمور وظهر المدرب أحمد مصاباً، ركضت إليه وهي تقهقه: «هل أنت بخير؟» حاول أن يخبّئ ألم الكتف بابتسامةٍ متعَبة: «أنا بخير… لا تنادي عليّ مدرب.»
القصة لم تنتهِ عند هذا الحد. الحرب استمرت، والجبروت يتدفق من كلا الجانبين. في أحد المشاهد، سمعت زهراء عن طفلٍ يتيمٍ اسمه ناصر، لا يتجاوز الثانية عشرة، محاطاً بالخطر. تركض بلا تفكير، تكسر باب البيت، تدخل لإنقاذه. تُلقى به عبر النافذة من شدة الخطر، تنزل خلفه، وتنطلق تجرّهما إلى مكان آمن. في كلّ فعلٍ بسيط، تُبيّن زهراء أنّ قوتها ليست عُنصراً للإيذاء، بل وسيلة للحماية.
أمام زهراء وأمام أحمد — اللذان جمعتهما المصادفة والماضي والآن — يسأل العالم عن سؤال بسيط: هل هي الحياة أم الموت؟ هل هو الاختيار أم المصير؟ كل خطوةٍ تخطوها زهراء وكل دمعةٍ يبتلعها أحمد تقربهما من إجابةٍ تبدو باردة وبسيطة: إنهما معاً في هذا التحدي، وبينهما شيءٌ من الخوف، ومن الحب، ومن الندم.
𝒜𝓇𝒾𝒶
عاش طلعتوا موجودين وناسه
@Sahexs7
@ron-636
@ToRi_gAcHa
6 days ago | [YT] | 29
View 22 replies
𝒜𝓇𝒾𝒶
الفصل الأول — بين الحياة والموت
الاسم: الحياة أم الموت؟
زهراء كانت تمشي في ردهات المدرسة الثانوية وكأنها تحمل عالماً صغيراً في صدرها. صمتها يلفّها كالوشاح، وعيناها العسليتان تختبئان خلف حواجبٍ لا تجرؤ على الكشف عن كلّ ما في داخلهما. أحمد، الذي عرفته منذ الإعدادية، ظلّ في طرف الخاطر — ليس كباقي الوجوه، بل كندبة طرأت على قلبها، تذكّرها بآلام قديمة وبأحلام لم تكتمل.
وذات يوم، بينما كانت الصفوف تتلاشى خلف جدران المدرسة، أمسك أحمد بيدها فجأة؛ لم تكن يده قوة، بل كانت رجاءً. قال بصوتٍ مكسور: «زهراء… أريد منك شيء بسيط.»
هزّت جسدها رعدة خفيفة. «ماذا؟» جاء صوتها مهزوزاً، كمن ينادونها من بعيد.
تنفّس أحمد، كأن الكلمات تُكلّفه ثمناً باهظاً. «لا نستطيع إكمال العلاقة…» صرخ الحزن في نبرته، وكأنما يكتم انفجاراً.
حاولت أن تطمأنّ نفسها ثم قالت: «أعرف… لكن لنحاول مع العائلة.»
ارتفع صوته قليلاً، مشوب بالألم: «أنتِ لم تحاولي ولو مرة. لو خفتِ لمرّة واحدة، كنتُ سأعتبر مشاعرنا لعبة.»
أجهشت زهراء بصمت، وقالت بصوتٍ مكتوم: «والدي معقّد نفسياً، وأمي تكره والدتك. لو تكلّمتُ… سيقولون إنك جئتِ لتدمر الأسرة. سيطردونني. سيرمون بي إلى الجحيم.»
أحمد حاول بقوّة: «حاولي مرة. ربما تنحلّ الأمور.»
«حاولت كثيراً»، قالت زهراء، وكل كلمةٍ منها تعدّمت في حلقها. «لكنهم لم يوافقوا أبداً.»
سألها: «منذ متى؟»
أجابت: «منذ أسبوع… منذ أن رحل.»
ارتعش وجه أحمد. «سأخطبك بدون علمهم. تصرّفي بذكاء.»
صرخت الصدمة في صدرها: «عمرك 19، لا تملك المال حتى للدفع أو الزواج!»
«إما أن أخطبك أو أنهي كل شيء.» قالها بحدّةٍ تقرب من الاستسلام.
فعلت زهراء ما تملك من شجاعةٍ هزيلة: «حسناً… حسناً.»
في اليوم التالي، ذهب أحمد ليتحدث إلى والده. الرفض كان قاسياً، كالصفعة. تهديداتٌ ووعيدٌ، وكلماتٌ عن أعمالٍ مظلمةٍ في الماضي. قال الأب: «سأقطع لسانك.» لكن أحمد لم يساوم: «لن أسمح لمستقبلي أن يكون تجارة مخدرات.»
البيت الآخر كان ساحة حربٍ أيضاً. أم زهراء قبضت على قطعة قماش من فستانها، صرخت فيها: «أترجين والدتك يا مجنونة!» لكن زهراء تمالكت نفسها: «آسفة، أم… أمي.»
«إن رأيتك معه سيكون هذا آخر يوم في حياتك!» همست الأم بتهديدٍ بلا تردد.
ثم تكشّف الأمر: أحد أفراد عصابة أبي أحمد لاحظ مراسلات بينهما. وفي ليلةٍ مظلمة، بينما كانت زهراء متجهةً للمكان المعتاد، هبّت ريح من العنف؛ أمسكوا بها، وجرّوها بعنف، وسحبوا أحمد بعيداً. صرخت زهراء بعيونٍ ملؤها الرعب: لم ترَه بعد ذلك. لم تكن تعلم إن كان حيّاً أو لا.
مرت ستة أعوام. الزمن قاسٍ يقطع على البشر مثل شفرات. زهراء، الفتاة الهادئة التي لم تعرف أن تكبر داخل محيطها، خرجت من رمادها: دخلت التدريب العسكري، قاسيةٌ ضد ضعفها، أقسى من تلك الشهور التي هزمت فيها نفسها. لم تكن قوية جسدياً في البداية، لكن مهارتها في إطلاق النار نمت كجرحٍ يلتئم ليصبح سلاحاً. قصّت شعرها، صار قصيراً كحقيقةٍ لا تقبل التجنّب. تحوّلت ملامحها لتشبه صبيّاً في سلوكٍ ومظهرٍ — ستارٌ يخفف ضغط العيون والهمسات.
أحمد أيضاً تغيّر. بعد ست سنوات من التعب والقتال والنقاش مع الشياطين التي تحيط بعائلته، أصبح قائداً. لم يمنعه منصبه ولا بشرته من أن يحتفظ بصدى اسمٍ واحدٍ يقطع جسده: زهراء. ذكراها كانت شبحاً يلوذ به عندما يواجه المآسي. كان كلما اشتدّ عليه الحزن، تذكر كيف صرخ فيها ذات يوم لأنه شعر بأن ضعفه سيهدمها.
الصدفة — أو ربما القدر — جمعتهما مرة أخرى في مدينةٍ يشتعل فيها لهيب الحرب. زهراء، التي اتقنت التنكّر بزيٍّ يخفي أنوثتها، سارت بين الجنود، لا تريد أن يعرف أحد حقيقتها. لكنها لم تستطع الهروب من عيونٍ رماديةٍ اعتادت قراءة حركاتها. رأت أحمد من بعيد؛ كان يرتدي قناعاً يخفي نصف وجهه. عرفها فوراً من شدة حركتها، من طريقتها في رفع اليد كمن يلوّح بمسدس وهمي. لاحقها حتى جاءا إلى مستودع مهجور. هناك، خلع قناعه، ورأته على حقيقته — هو قبل كل شيء: وجه يعرف كيف يحنّ.
«اشتقت لكِ يا زهرتي… لماذا تهربين؟» نطق بها كما لو أن الليل قد صار له.
لم تستطع زهراء أن تنكر: ارتعشت. «كيف عرفت؟» همست، متعجبة، وكأن وجوده كشف عنها.
«أعرفك من طريقة صمتك»، قال وهو يبتسم بسخريةٍ حانية. سحبها إلى صدره، واحتضنها كأن العالم برمّته لا يملك حقّاً أن يفرق بينهما.
العيش في الكتيبة لم يكن سهلاً عليها. كانت تواجه نظراتٍ واستهزاءاتٍ، لكنها تعرف أن قوتها الحقيقية كانت في خبّتها، في صمتها، في القدرة على أن تصبح ما لم تتصوره. أحمد كان دائماً يدافع عنها، ويخرج على من يجرؤ على السخرية. مرة، في ساحة التدريب، نادى عليها بصوتٍ حازمٍ أمام الجميع: «نادر، دورك!» كانت عيناه كأنّهما قارئتان للقلوب — يضرب لمن يجرؤ على ألمها.
ثم اندلع القتال فجأةً. أصوات الرصاص، صهيل الخيول، انفجارات تشقّ الفضاء. زهراء كانت تقاتلَ كعاصفة: قتلت رجلاً أطلق النار، ضربت آخر بحجر، أنقذت رفاقها ببرودٍ وحزم. رفيقتها سارة لم تكن تعرف أنها فتاة. حين انقلبت الأمور وظهر المدرب أحمد مصاباً، ركضت إليه وهي تقهقه: «هل أنت بخير؟» حاول أن يخبّئ ألم الكتف بابتسامةٍ متعَبة: «أنا بخير… لا تنادي عليّ مدرب.»
القصة لم تنتهِ عند هذا الحد. الحرب استمرت، والجبروت يتدفق من كلا الجانبين. في أحد المشاهد، سمعت زهراء عن طفلٍ يتيمٍ اسمه ناصر، لا يتجاوز الثانية عشرة، محاطاً بالخطر. تركض بلا تفكير، تكسر باب البيت، تدخل لإنقاذه. تُلقى به عبر النافذة من شدة الخطر، تنزل خلفه، وتنطلق تجرّهما إلى مكان آمن. في كلّ فعلٍ بسيط، تُبيّن زهراء أنّ قوتها ليست عُنصراً للإيذاء، بل وسيلة للحماية.
أمام زهراء وأمام أحمد — اللذان جمعتهما المصادفة والماضي والآن — يسأل العالم عن سؤال بسيط: هل هي الحياة أم الموت؟ هل هو الاختيار أم المصير؟ كل خطوةٍ تخطوها زهراء وكل دمعةٍ يبتلعها أحمد تقربهما من إجابةٍ تبدو باردة وبسيطة: إنهما معاً في هذا التحدي، وبينهما شيءٌ من الخوف، ومن الحب، ومن الندم.
ولكن النهاية؟ النهاية لم تُكتب بعد...
@Shiana_Zakumi
3 weeks ago (edited) | [YT] | 1
View 7 replies